سورة الأنعام - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)}
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} كلام مبتدأ مسوق لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيان ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريرًا لما قبله وتحقيقًا لمضمونه. وضمير {مِنْهُمْ} للذين أشركوا. والاستماع عنى الإصغاء وهو لازم يعدى باللام وإلى كما صرح به أهل اللغة، وقيل: إنه مضمن معنى الإصغاء ومفعوله مقدر وهو القرآن. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح: إن أبا سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبيا بن خلف استمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشًا فيستملحون حديثه فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأفرد ضمير {مِنْ} في {يَسْتَمِعِ} وجمعه في قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} نظرًا إلى لفظه ومعناه وعن الكرخي إنما قيل: هنا {يَسْتَمِعِ} وفي يونس (42): {يَسْتَمِعُونَ} لأن ما هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد وما هناك في جميع الكفار فناسب الجمع، وإنما لم يجمع ثم في قوله سبحانه: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] لأن المراد النظر المستتبع لمعاينة أدلة الصدق وأعلام النبوة والناظرون كذلك أقل من المستمعين للقرآن.
والجعل عنى الإنشاء. والأكنة جمع كنان كغطاء وأغطية لفظًا ومعنى لأن فعالًا بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلة على أفعلة كأحمرة وأقذلة، وفي الكثرة على فعل كحمر إلا أن يكون مضاعفًا أو معتل اللام فيلزم جمعه على أفعلة كأكنة وأخبية إلا نادرًا. وفعل الكن ثلاثي ومزيد يقال: كنه وأكنه كما قاله الطبرسي وغيره وفرق بينهما الراغب فقال: أكننت يستعمل لما يستر في النفس والثلاثي لغيره والتنوين للتفخيم. والواو للعطف والجملة معطوفة على الجملة قبلها عطف الفعلية على الاسمية، وقيل: الواو للحال أي وقد جعلنا. و{على قُلُوبِهِمْ} متعلق بالفعل قبله. وزعم أبو حيان أنه «إن كان عنى ألقى فالظرف متعلق به وإن كان عنى صير فمتعلق حذوف إذ هو في موضع المفعول الثاني». والمعنى على ما ذكرنا وأنشأنا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر قدرها.
{أَن يَفْقَهُوهُ} أي كراهة أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع فالكلام على تقدير مضاف ومنهم من قدر لا دونه أي أن لا يفقهوه وكذلك يفعلون في أمثاله، وجوز أن يكون مفعولًا به لما دل عليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي منعناهم أن يفقهوه أو لما دل عليه {أَكِنَّةً} وحده من ذلك {وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا} أي صممًا وثقلًا في السمع يمنع من استماعه على ما هو حقه.
والكلام عند غير واحد تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم وفرط نبوة قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم أصمها الله تعالى، وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية أو مكنية أو مشاكلة. وقد مر لك في البقرة ما ينفعك هنا فتذكره.
وقرأ طلحة {وِقْرًا} بالكسر وهو على ما نص عليه الزجاج حمل البغل ونحوه، ونصبه على القراءتين بالعطف على {أَكِنَّةً} كما قال أبو البقاء.
{وَإِن يَرَوْاْ} أي يشاهدوا ويبصروا {كُلُّ ءايَةٍ} أي معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم على ما نقل عن الزجاج وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثير القليل من الطعام وما أشبه ذلك {لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم. والكلام من باب عموم النفي ككل ذلك لم يكن لا من باب نفي العموم. والمراد ذمهم بعدم الانتفاع بحاسة البصر بعد أن ذكر سبحانه عدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم، ونقل عن بعضهم أنه لابد من تخصيص الآية في الآية بغير الملجئة دفعًا للمخالفة بين هذا وقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءايَةً فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} [الشعراء: 4]. واكتفى بعضهم بحمل الإيمان على الإيمان بالاختيار وفرق بينه وبين خضوع الأعناق فليفهم. وخص شيخ الإسلام الآية «ا كان من الآيات القرآنية أي وإن يروا شيئًا من ذلك بأن يشاهدوه بسماعه لا يؤمنوا به»، ولعل ما قدمناه أحلى لدى الذوق السليم.
{حتى إِذَا جَاءوكَ يجادلونك} أي يخاصمونك وينازعونك. و{حتى} هي التي تقع بعدها الجمل ويقال لها: حتى الابتدائية ولا محل للجملة الواقعة بعدها خلافًا للزجاج وابن درستويه زعمًا أنها في محل جر بحتى. ويرده أن حروف الجر لا تعلق عن العمل وإنما تدخل على المفرد أو ما في تأويله. والجملة هنا قوله تعالى: {إِذَا جَاءوكَ} مع جواب الشرط أعني قوله سبحانه وتعالى: {يَقُولُ الذين كَفَرُواْ} وما بينهما حال من فاعل جاؤوا. وإنما وضع الموصول موضع الضمير ذمًا لهم بما في حيز الصلة وإشعارًا بعلة الحكم. و{إِذَا} منصوبة المحل على الظرفية بالشرط أو الجواب على الخلاف الشهير في ذلك، واعترض بأن جعل {يجادلونك} في موضع الحال و{يَقُولُ الذين} جوابًا مفض إلى جعل الكلام لغوًا لأن المجادلة نفس هذا القول إلا أن تؤول المجادلة بقصدها.
ولا يخفى ما فيه، فإن المجادلة مطلق المنازعة. وسميت بذلك لما فيها من الشدة أو لأن كل واحد من المتجادلين يريد أن يلقى صاحبه على الجدالة أي الأرض. والقول المذكور فرد منها فالكلام مفيد أبلغ فائدة كقولك إذا أهانك زيد شتمك، وذكر بعض النحويين أن حتى إذا وقع بعدها إذا يحتمل أن تكون عنى الفاء وأن تكون عنى إلى والغاية معتبرة في الوجهين أي بلغوا من التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاؤوك مجادلين لك لا يكتفون جرد عدم الإيمان ا سمعوا من الآيات الكريمة بل يقولون: {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا {إِلاَّ أساطير الاولين} أي أحاديثهم المسطورة التي لا يعول عليها، وقال قتادة: كذبهم وباطلهم. وحاصل ما ذكر أن تكذيبهم بلغ النهاية بما ذكر لأنه الفرد الكامل منه. ونظير ذلك مات الناس حتى الأنبياء وجوز أن تكون {حتى} هي الجارة و{إِذَا جَاءوكَ} في موضع الجر وهو قول الأخفش وتبعه ابن مالك في التسهيل. ورده أبو حيان في شرحه. وعليه فإذا خارجة عن الظرفية كما صرحوا به وعن الشرطية أيضًا فلا جواب لها فيقول حينئذ: تفسير ليجادلونك وهو في موضع الحال أيضًا، والأساطير عند الأخفش جمع لا مفرد له كأبابيل ومذاكير، وقال بعضهم: له مفرد. وفي القاموس «إنه جمع إسطار وإسطير بكسرهما وأُسطور وبالهاء في الكل»، وقيل: جمع أسطار بفتح الهمزة جمع سطر بفتحتين كسبب وأسباب فهو جمع جمع. وأصل السطر عنى الخط.


{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)}
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} الضمير المرفوع للمشركين والمجرور للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعده حديث خرافة بل ينهون الناس عن استماعه لئلا يقفوا على حقيته فيؤمنوا به {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهارًا لغاية نفورهم عنه وتأكيدًا لنهيهم {عنه} فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي، ولعل ذلك كما قال شيخ الإسلام هو السر في تأخير النأي عن النهي. وهذا هو التفسير الذي أخرجه ابن أبي شيبة وابن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن مجاهد رحمة الله تعالى عليه، وقيل: الضمير المجرور للرسول صلى الله عليه وسلم على معنى ينهون الناس عن الإيمان به عليه الصلاة والسلام ويتباعدون عنه. وهو التفسير الذي أخرجه أبنا جرير والمنذر وأبي حاتم ومردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه أيضًا ابن جرير من طريق العوفي. وروي ذلك عن محمد بن الحنفية والسدي والضحاك، وقيل: الضمير المرفوع لأبي طالب وأتباعه أو أضرابه والمجرور للنبي صلى الله عليه وسلم على معنى ينهون عن أذيته عليه الصلاة والسلام ولا يؤمنون به.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال أنه قال: إن الآية نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا عشرة وكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه عليه الصلاة والسلام في السر، وقيل: ضمير الجمع لأبي طالب وحده وجمع استعظامًا لفعله حتى كأنه مما لا يستقل به واحد، وقيل: إنه نزل منزلة أفعال متعددة فيكون كقوله: قفا عند المازني، ولا يخفى بعده. وروى هذا القول جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضًا. وروي عن مقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش إليه يريدون سوءًا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال منشدًا:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وأبشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح *** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا لا محالة أنه *** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة *** لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فنزلت هذه الآية. وفيها على هذا القول والذي قبله التفات، ورد الإمام القول الأخير بأن جميع الآيات المتقدمة في ذم فعل المشركين فلا يناسبه ذكر النهي عن أذيته عليه الصلاة والسلام وهو غير مذموم. ونظر فيه بأن الذم بالمجموع من حيث هو مجموع. وبهذه الآية على هذه الرواية استدل بعض من ادعى أن أبا طالب لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذا المطلب في موضعه.
والنأي لازم يتعدى بعن كما في الآية. ونقل عن الواحدي أنه سمع تعديته بنفسه عن المبرد وأنشد:
أعاذل إن يصبح صدى بقفرة *** بعيدة نآني زائري وقريبي
وخرجه البعض على الحذف والإيصال ولا يخفى ما في {يَنْهَوْنَ} و{ينأون} من التجنيس البديع. وقرئ {وينون عنه}.
{عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ} أي وما يهلكون بذلك {إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه وهو عذاب الضلال والإضلال. وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير {يُهْلِكُونَ} أي يقصرون الإهلاك على أنفسهم والحال أنهم غير شاعرين أي لا بإهلاكهم أنفسهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يضروا بذلك شيئًا من القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما عبر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلق الضرر للإيذان بأن ما يحيق بهم هو الهلاك لا الضرر المطلق. على أن مقصدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذكروا بل كانوا يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو نظام عقد لآلىء الآيات القرآنية. وجوز أن يكون الإهلاك معتبرًا بالنسبة إلى الذين يضلونهم بالنهي فقصْره على أنفسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبني على تنزيل عذاب الضلال عند عذاب الإضلال منزلة العدم. «ونفي الشعور على ما في البحر أبلغ من نفي العلم» كأنه قيل: وما يدركون ذلك أصلًا.


{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)}
{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} شروع في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقض لما صدر عنهم في الدنيا من القبائح المحكية مع كونه كاذبًا في نفسه. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من له أهلية ذلك قصدًا إلى بيان سوء حالهم وبلوغها من الشناعة إلى حيث لا يختص استغرابها دون راء. و{لَوْ} شرطية على أصلها وجوابها محذوف لتذهب نفس السامع كل مذهب فيكون أدخل في التهويل، ونظير ذلك قوله امرئ القيس:
وجدك لو شيء أتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد لك مدفعًا
وقولهم لو ذات سوار لطمتني. و{تَرَى} بصرية وحذف مفعولها لدلالة ما في حيز الظرف عليه. والإيقاف إما من الوقوف المعروف أو من الوقوف عنى المعرفة كما يقال: أوقفته على كذا إذا فهمته وعرفته واختاره الزجاج أي: ولو ترى حالهم حين يوقفون على النار حتى يعاينوها أو يرفعوا على جسرها وهي تحتهم فينظرونها أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت ما لا يحيط به نطاق التعبير. وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق. وقيل: إن لو عنى إن. وجوزوا أن تكون ترى علمية وهو كما ترى. وقرئ {وُقِفُواْ} بالبناء للفاعل من وقف عليه اللازم ومصدره غالبًا الوقوف، ويستعمل وقف متعديًا أيضًا ومصدره الوقف وسمع فيه أوقف لغة قليلة. وقيل: إنه بطريق القياس.
{فَقَالُواْ} لعظم أمر ما تحققوه {لَنَا أَوْ نُرَدُّ} أي إلى الدنيا. و{يا} للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف أي يا قومنا مثلًا {نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا} أي القرآن كما كنا نكذب من قبل ونقول: أساطير الأولين. وفسر بعضهم الآيات بما يشمل ذلك والمعجزات، وقال شيخ الإسلام: يحتمل أن يراد بها الآيات الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها بناء على أنها التي تخطر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا في حقها. ويحتمل أن يراد بها جميع الآيات المنتظمة لتلك الآيات انتظامًا أوليًا.
{وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} بها حتى لا نرى هذا الموقف الهائل كما لم ير ذلك المؤمنون. ونصب الفعلين على ما قال الزمخشري وسبقه إليه كما قال الحلبي الزجاج بإضمار أن على جواب التمني، والمعنى أن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين. ورده أبو حيان بأن نصب الفعل بعد الواو ليس على الجوابية لأنها لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها وما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو الجمع تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي عاطفة يتعين من النصب أحد محاملها الثلاث وهي المعية ويميزها عن الفاء صحة حلول مع محلها أو الحال وشبهة من قال: إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب.
ويوضح لك أنها ليست به انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط، وأجيب بأن الواو أجريت هنا مجرى الفاء. وجعلها ابن الأنباري مبدلة منها. ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود وابن اسحق {فَلا نُكَذّبَ}، واعترض أيضًا ما ذكره الزمخشري من معنى الجزائية بأن ردهم لا يكون سببًا لعدم تكذيبهم. وأجيب بأن السببية يكفي فيها كونها في زعمهم. ورد بأن مجرد الرد لا يصلح لذلك فلابد من العناية بأن يراد الرد الكائن بعد ما ألجأهم إلى ذلك إذ قد انكشفت لهم حقائق الأشياء. ولهذه الدغدغة اختار من اختار العطف على مصدر متوهم قبل كأنه قيل: ليت لنا ردًا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين، وقرأ نافع وابن كثير والكسائي برفع الفعلين، وخرج على أن ذلك ابتداء كلام منهم غير معطوف على ما قبله والواو كالزائدة كقول المذنب لمن يؤذيه على ما صدر منه: دعني ولا أعود يريد لا أعود تركتني أو لم تتركني. ومن ذلك على ما قاله الإمام عبد القاهر قوله:
اليوم يومان مذ غيبت عن نظري *** نفسي فداؤك ما ذنبي فاعتذر
وكأن المقتضي لنظمه في هذا السلك إفادة المبالغة المناسبة لمقام المغازلة، واختار بعضهم كونه ابتداء كلام عنى كونه مقطوعًا عما في حيز التمني معطوفًا عليه عطف إخبار على إنشاء، ومن النحاة من جوزه مطلقًا، ونقله أبو حيان عن سيبويه، وجوز أن يكون داخلًا في حكم التمني على أنه عطف على {نُرَدُّ} أو حال من الضمير فيه، فالمعنى كما قال الشهاب على تمني مجموع الأمرين الرد وعدم التكذيب أي التصديق الحاصل بعد الرد إلى الدنيا لأن الرد ليس مقصودًا بالذات هنا، وكونه متمنى ظاهر لعدم حصوله حال التمني وإن كان التمني منصبًا على الإيمان والتصديق فتمنيه لأن الحاصل الآن لا ينفعهم لأنهم ليسوا في دار تكليف فتمنوا إيمانًا ينفعهم وهو إنما يكون بعد الرد المحال والمتوقف على المحال محال. وقرأ ابن عامر برفع الأول ونصب الثاني على ما علمت آنفًا، والجوابية إما بالنظر إلى المجموع أو بالنظر إلى الثاني وعدم التكذيب بالآيات مغاير للإيمان والتصديق فلا اتحاد. وقرئ شاذًا بعكس هذه القراءة.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12